«الميلاد» قصة قصيرة للكاتب حسن رجب  الفخراني

قصة قصيرة للكاتب حسن رجب  الفخراني
قصة قصيرة للكاتب حسن رجب  الفخراني

دقائق قليلة تسبق مولدي، ما أجمل أن تشاهد ميلادك بنفسك, وأن تتلقى أنت المباركات والهدايا.

 كل من حولك يتطلعون مثلك إلى هذا اليوم الذين يولدون فيه من جديد.

تصبح حرا تكسر جل القيود التي جردت منك كثيرا من المعاني الإنسانية وجعلتك مجرد آلة تنفذ ما تؤمر به وليس لها حتى حق النقاش ولو في توافه الأمور.

الاعتراض معناه أن تفتح علي ذاتك مصاريع أبواب الزجر وربما العقاب, وتنهال عليك السياط تجلد بطيء خطواتك المرتعشة. تجد حياتك أصبحت منهكة في أتون اللوائح والقوانين الجافة التي تعد لك مشنقة تناسبك تماما ولتكن عبرة لغيرك لمن تأتيه الجراءة علي إعلان العصيان ولو بداخل أصغر درج في مكتبك البائد العفن.

: ميلادك طيب مبارك

رد وابتسامة طفولية مليئة بالتطلع إلى حياة ينتظرها منذ زمن

: بارك الله في صحبتنا الطيبة ولا تقلق فدفتر شهادات الميلاد لم ينفذ بعد

ثم مال عليه وقال ضاحكا

: المهم أن تفعل ذلك قبل أن يسجل اسمك في دفتر الوفيات.

 أعطانه قطعة شكولاتة من صنف غالي لا يظهر ولا يقدم إلا في المناسبات الهامة , وهل هناك في الحياة ما هو أهم من بدايتها ؟

توالي قدوم المهنئين، ثم جلس جميعهم فوق المقاعد البلاستيكية أما هو ومن جالسوه على يمينه فمقاعدهم كانت من الجلد المبطن بحشوة ناعمة تريح المقعدة.

بدأ عامل البوفيه الطاعن في السن ينشر المشروبات الباردة والساخنة علي جموع الجالسين أما فوق المنصة التي كان جالسا خلفها فقد تم اعتلائها بزجاجات المياه المعدنية وفناجين القهوة الفخمة.

انبرى ربان تلك المنصة في تصدر المشهد حينما هب واقفا وهو بين الفينة وأختها يمد يده ليعدل من وضع نظارته التي أصبحت جزء لا يمكن فصله من جلده الذي بدأت الأمراض الجلدية تغزوه،

: اليوم كان اجتماعنا لنبارك لأخ عزيز علي قلوبنا جميعا بتلك المناسبة التي لا يجود الزمان للمرء سوى مرة واحدة ونحن حين نكرمه في ميلاده للحياة الحقيقة إنما هو شوق عارم يعتمل في نفوسنا جميعا لا سيما بعدما أجهدتنا دهاليز وأروقة تلك المصلحة التي سرقت منا أجمل ثمار العمر.

بعثت تلك الكلمات في جسده القشعريرة وأشعلت فتيل مصابيح الذكريات التي ما فتِئت تتوالى في بريقها، بعضها يتحلى بعنفوان الشباب والآخر منحني الظهر أسفل وطأة الهموم العتية.

مع بدايات اليوم الجديد, يحمل بين يديه هدية الزملاء, عادا إلى البيت وقد فقدت هويته كونه موظف عمومي.

ما إن أشرقت شمس النهار حتى كان أول من يدخل باب المصلحة كما اعتاد طوال سنوات لم يعد يحصيها, مر الوقت تقيل وممل, عادت المصلحة تعج بركابها وموظفيها, توجه في فوره إلي المكتب الذي كان مكتبه بالأمس, صده العامل القابع كالأسد الحارس أمام الباب

: نعم يا سيد

رمقه باستغراب هم أن يقول له ألا تعرفني, لكن تذكر ما كان يفعله به إبان كان هو المسيطر, الآن هو كعموم من يأتي كي ينهي أوراقه, ليس أمامه إلا أن يدفع الباب وهذا ما حدث, هب القابع فوق مكتب المسئول والذي كان بالأمس ربان سفينة التكريم صارخا فيه

: ماذا تفعل أيها المواطن, هذا اعتداء علي موظف عمومي .

حاول الرد, جف ريقه, استجمع شجاعته لكي يقول في ذل بين

: عفوا سيدي, لكن لدي متعلقات أريد أن أنهيها.

رد عليه باستعلاء

: انتظر دورك مثلك مثل الجميع, هنا لدينا التزام.

قفل راجعا وقد شعر بأن روحه توشك أن تفارق جسده وغضب عارم اعتمل في داخله ووقف في الطابور ينتظر دوره .

فيما مضي كانت هذه لذته الكبرى في عمله.